لا غرو أن مستوى الجذع المشترك، هو المحطة الأولى التي يصطدم فيها المتعلم بمادة الفلسفة وهو محمل بمجموعة من التصورات المسبقة والرواسب والأحكام القيمة والتمثلات الاجتماعية، التي تكونت لديه بفعل عوامل ومتغيرات كثيرة : تربوية، سوسيوثقافية، نفسية اجتماعية، وهذه العوامل والمتغيرات تشكل صيرورات نفسية معرفية (تمثلات) تشتغل ضمنها مجموعة من آليات التحضير، المقاومة والرفض، بحيث تتحول الأحكام القيمة المسبقة والجاهزة إلى محفزات ايجابية للتفاعل مع التفكير الفلسفي، أو تتحول إلى ميكانيزمات للدفاع عن الذات، ومن تم إلى عوائق متعددة الأشكال تؤول في نهاية المطاف إلى عائق مركزي وأساسي هو عائق الخوف من التفكير. وهكذا فإن إقدام التلميذ على دراسة التفكير الفلسفي وتعلمه تمتزج فيه الرغبة والخوف. الرغبة في معرفة هذا العالم الغريب الجديد والإطلاع عليه للانخراط فيه، لكنه في اللحظة ذاتها إقدام مشوب بالحيطة والحذر من حيث أن التفكير الفلسفي يرتبط في ذهنه بخلخلة معتقداته وزعزعة قناعاته. وإذا كان من الصعوبة بمكان الجزم بالسلبية المطلقة لهذا العائق، فإنه يجب وفي كل الأحوال والظروف ( سواء أثناء التهييء للكتب المدرسية أو التهييء للكتب الموازية لها، أو أثناء إنجاز الدروس)أخذه بالحسبان والانتباه إلى أشكال حضوره وتجلياته : عدم الانتباه، التشكيك، الرفض، السخرية من طريقة التناول الفلسفي – الصياغة المفهومية، الصياغة الإشكالية ثم البناء الحجاجي- وما يتطلبه هذا المجال من تحويل وتغيير في طريقة التفكير ( أو تفكير المتعلم) وما يستوجب من صرامة ودقة في التفكير، سخرية من ممارسة تحرض الإنسان وتدفعه ليفكر بنفسه دون أحكام مسبقة ودون حجر أو وصاية سخرية من ممارسة نقدية وعقلانية وتنويرية.
وكما سبق الذكر فالتصورات لها مرجعي الواقع المعيش، وكل متعلم له مرجعية نموذجية، شعورية متماثلة مع الممارسة الواقعية اليومية ومع الترابط العلائقي المتماسك والتي تدخل في مجموعة من النماذج التفسيرية الجاري بها العمل، وسندرج بعض هنا تمثلا ورد عند دفشي بأن "طفلا سأل أباه ن دخان طائرة تنفثه المحركات، فأجابه بأنه عمامة مسدولة وراءها، ورغم مرور الزمن والتأكد من أنه ليس كذلك، ووجود الأب في نفس وضعية مشابهة فمازال يفكر بنفس الطريقة الأولى والمتمثلة في سدل العمامة. فالتمثلات المعرفية لا يمكن تغييرها بسهولة، ففي المثال السابق فهي مرتبطة بالجانب العاطفي الذي يكتنزه الشخص في صورة أبيه، كما يذهب إلى ذلك دفشي، فهو لم يرد إزاحة شيء من ماضيه وتاريخه ، فكل ما تم تركيزه وتثبته عبر الزمن من خلال الاحتكاك والتنشئة الاجتماعية يصعب تغييره، ففي بعض الأحيان وربما أغلب الأوقات، من خلال المعايشة والتعود يتم غرس أفكار سواء كانت صائبة أو العكس ولا يمكن زحزحتها أو استبدالها إلا بصعوبة في بعض الأحيان، فعادة الحياة اليومية تحملنا على الاعتقاد بأن شيء ما هو أمر ضروري. "
فأهمية اكتشاف التمثلات المعرفية تتجلى في كونها أحد المؤشرات التي تسمح للمتعلم وتمكنه من مقارنة معارفه المكتسبة قبل التعلم وبعده ، فهي من بين أفضل الطرق لمساعدته على أن يكون قادرا على بناء معارفه الخاصة وعيا واحساسا وإدراكا بتطورها لاحقا.إن كشف مختلف المرجعيات التي لها تأثير على تكوين تمثلات التلاميذ من شأنه أن يساعدنا كذلك كمدرسين على ضبطها وحصرها، وتوجيهها بغية تحقيق الأهداف والغايات المرجوة من تدريس وتعلم الفلسفة، التي تقدم نفسها على أنها ممارسة للتفكير، تفكير نريده نقديا وعقلانيا وتنويريا ومنطقيا، فكيف لنا أن ننمي في التلميذ شعور الرغبة في هذا التفكير النبيل بدل الخوف منه؟ وكيف لنا أن نعمل على قهر ذلك العائق ونغير الصورة التي توضع بها الفلسفة في وعي هؤلاء التلاميذ؟ كيف لنا أن نجعل التلميذ ينخرط في مجال الفلسفة؟
بالانتقال إلى دراسة السمات السلبية أو التمثلات التي يحملها مجموعة من التلاميذ عند بداية كل موسم دراسي عن مادة الفلسفة، نسجل تصدر سمتين عند وهما أولا اعتبار الفلسفة كلام فارغ مبعث للملل والنفور، وكذلك اعتبارها إشكالات صعبة الفهم، غير أن السمة الأولى هي الطاغية.وهذا راجع حسب تقديرنا إلى التأثير أكثر بما يروج عن الفلسفة في الشارع. حيث أن مقولة "الفلسفة كلام فارغ" من بين ما يروجه الشارع عن الفلسفة من أوصاف سلبية وأحكام قدحية وواهية لا أساس لها من الصحة فقد اقترنت الفلسفة في الأوساط العامية بالكلام الفارغ. كما اقترن الكلام الفارغ بالفلسفة أو التفلسف فكل كلام فارغ فلسفة، وكل سفيه فيلسوف والعكس بالعكس. والملاحظ أن سمة الفلسفة مجال للتناقض والاختلاف تحضر بنفس النسبة عند كلا المجموعتين حوالي 20%. ويمكن تفسير حضور هذه السمة، حسب تقديرنا، إما لكون التلاميذ لم يستوعبوا خاصية تعدد الخطابات الفلسفية واختلاف المواقف حول نفس القضايا، رغم أن هذه الخاصية تبقى خاصية سوية في التفكير الفلسفي باعتبار أننا في الفلسفة لا نقف عند خطاب أحادي الجانب، وإنما عند خطابات متعددة. بسبب عوامل ذاتية تعود لذات المفكر، وعوامل موضوعية لها ارتباط بالواقع وطبيعة القضية المفكر فيها. ونسجل كذلك حضور سمة أن الفلسفة مدعاة للشرك والإلحاد وأن مصير دارسيها لا يبشر بخير وبنسب متواضعة.
إن التلميذ يلج حصة الفلسفة وهو في حالة صراع معرفي ، ويمكن تفسير ذلك بكون التلاميذ على المستوى المعرفي شحنوا ويشحنون من طرف الوعي العامي والجمعي أو الثقافة الشعبية عبر مجموعة من القيم والمعتقدات والرموز بأحكام ومعايير جاهزة، تناقض كليا مع ما يتلقونه من طرف أستاذ مادة الفلسفة. كما أن خاصيتا الكفر أو الإلحاد والحمق كثيرا ما ألصقت بمدرس الفلسفة في المدرسة المغربية، فهو كافر أو ملحد لأنه يدرس الفلسفة التي هي ضد الدين، أو أحمق لأنه يقول كلاما فارغا وصعبا لا يفهم أوله ولا آخره كما يبرر حمقه بكفره وإلحاده.
وبالتالي تزدوج لديهم – التلاميذ – المرجعية المعرفية الثقافية والمؤسسية التي يستندون عليها عند التعبير عن آرائهم واتخاذ قراراتهم. ويمكن أن نرجع دلك إلى أن الدرس الفلسفي مازال مصبوغا بصفة الصعوبة والتعقيد والتجريد وذلك لأسباب نذكر منها :
أن ما يسميه التلميذ "بصعوبة الفلسفة" راجع إلى عدم خضوع التلميذ في مراحله السابقة من تكوينه إلى تربية تنمي لديه البحث والنقد والاستدلال والتفكير.
إن غياب تحديد الفلسفة كوعي اجتماعي مرتبط بشروط اقتصادية واجتماعية يجعلها صعبة الفهم، وهذا له انعكاسه على التلميذ من الناحية التربوية حيث تقدم له المادة من الموضوع الأول على أنها تتضمن صعوبة حتى في تعريفها.
إن طابع غياب الرؤية الشمولية الكلية يدخل التلميذ في تعامل مع موضوعات ذات طابع جزئي لا رابط بينها ولا ناظم يحكمها وبالتالي كمعلومات غير متناسقة على التلميذ حفظها وعلى الأستاذ تلقينها.
ومما لا شك أن هذه التمثلات ما هي إلا صورة تبنى من خلال مواقف التلاميذ من البرنامج الدراسي، وفي نفس الوقت هي انعكاس لتلك المعطيات السوسيو-ثقافية التي تلقها التلميذ خلال عملية التربية على اعتبار أن التربية ما هي إلا مجموعة من العوائد أو العادات أو القيم التي سطرها المجتمع، بمعنى أن النشاط التعليمي للإنسان يقوم كله على اكتساب عوائد محددة انطلاقا من تأثره بمعطيات خارجية (البيئة والمحيط). وهنا تجد الفلسفة نفسها "مذمومة" وفي وضعية احتقارية، وهذا راجع بالأساس إلى طبيعتها كمادة تعتمد على التفكير والتجريد والمفهمة و الأشكلة والمحاجة.إضافة إلى كون التلميذ يصطدم بالفلسفة في مرحلة المراهقة، تلك المرحلة التي تمتاز بالعدوانية والاندفاع وحدة التوثرات المتمثلة فيما يسمى بالتناقض الوجداني، ورغم أن الفلسفة تشتغل على النقاش والاختلاف والحجاج وهذا ما يمكن أن يساهم في التقليل من حدة التوترات التي تفرضها طبيعة المرحلة الارتقائية. وإنما نود تسجيله في نهاية هذا المقالة هو أملنا الكبير في ضرورة وعي المدرس اليقظ، قصد استثمارها في بناء الدرس الفلسفي ، في أفق تحرير التلاميذ لعقولهم من تلك الأفكار المسبقة والتمثلات الاجتماعية حول الفلسفة مع ضرورة إشاعة المعرفة الفلسفية بين أفراد المجتمع المغربي وتحسيسهم بضرورتها، وذلك لن يتأتى إلا باعتماد طرائق ومناهج سليمة في التدريس ترفض كل ما من شأنه أن يسيء لهذه المادة. وهكذا فالاهتمام بديداكتيك الفلسفة أو بيداغوجيا الدرس الفلسفي أصبح أمرا لا مناص منه في ممارستنا التعليمية/التعلمية داخل الفصل الدراسي المؤسسي، وذلك لعدة اعتبارات منها ما يتعلق بطبيعة الفلسفة ذاتها كتفكير عقلاني"جدي" حسب تعبير هيجل – يستلزم "أستاذ" متمكنا من فن وتقنيات التدريس،ومنها ما يرجع للوضع العام المميز لثقافة المتعلمين. هذا بالإضافة إلى ضرورة التدرج في الانتقال بالمفاهيم من مستوى الرأي "الدوكسا" إلى مستوى "الابستيمي"، أي من لحظة التداول العامي إلى لحظة الضبط المعرفي، هذا المنحى الذي اتخذته الفلسفات أو نهجه الفلاسفة عبر مختلف مراحل تطور الفكر الفلسفي يمكن اعتماده بيداغوجيا واعتباره من الناحية الديداكتيدكية وسيلة ناجعة لإنجاح الدرس الفلسفي، وذلك بالوقوف على تمثلات التلاميذ والعمل على انبثاقها ثم ضبطها وحصرها ومساءلتها ونقدها، وذلك في أفق تجاوزها وتصحيحها والقطع معها في إتجاه "صياغة مفاهيمية" خاصة تميز الطبيعة التفلسفية للمتعلمين.
إن الانطلاقة الصحيحة لأي منهاج تعليمي يجب أن تبدأ من الوعي بوضعية التعلم كفعل وظيفي يهدف إلى إشباع حاجات المتعلم ورغباته. وبقدر ما تكون هذه الوضعية وغيرها منبثقة من الواقع التربوي تكون النتائج ذات مردودية، شاملة وعالية. ففشل العديد من التجارب والمشاريع التربوية في الوطن العربي كان نتيجة لغياب التفكير في الفكر التربوي الشامل، فإلى أي حد يمكن القول بأن المنهاج الجديد –الخاص بالفلسفة- كفيل بتحقيق الأهداف و الكفايات المسطرة، وبإعطاء تمثل وصورة ايجابية للفلسفة ؟